حاولت دائمًا تخيل المشهد عشية قرار التقسيم، ومحاولة تتبع الأحداث في تلك الفترة، وكيف استطاع اليهود إقناع العالم باستصدار هذا القرار غير المنطقي وغير العادل وغير القانوني، وقد قرأت الكثير من الكتب والمقالات حول الموضوع لأصل إلى شبه صورة ضبابية مؤلمة جدا.
يُعد قرار التقسيم رقم 181 أكبر قرار ظالم على مر التاريخ في حق الشعوب، وقد تم التمهيد له عندما شكلت هيئة الأمم المتحدة لجنة دولية (uniscop) بطلب من الحكومة البريطانية لأنها "عجزت" عن إيجاد حل يرضي طرفي الصراع في فلسطين، وقد تكونت اللجنة من 11 عضوا: أستراليا، كندا، تشيكوسلوفاكيا، غواتيمالا، الهند، هولندا، إيران، البيرو، الأوروغواي، يوغوسلافيا، وعين إميل ساندستروم ممثل السويد رئيسا لها، وقد تم تشكيلها في تاريخ 17/06/1947، وتوجهت إلى فلسطين بعد أن جابت عدة أماكن في العالم، وخاصة معسكرات الإبادة النازية ضد اليهود، ولا بد من التأكيد أن اللجنة انطلقت في أبحاثها بالاعتماد على تقريري لجنة بيل 1937 ولجنة وودهيد 1938 البريطانيتين اللتين لم تنصفا الفلسطينيين أصلا، ومن هنا بدأت المؤشرات السلبية، ناهيك أنه لم يتم اختيار أي دولة إفريقية في اللجنة (ربما لأن تأثير اليهود هناك أقل أو محدود في تلك الفترة) .
بالعودة إلى اللجنة نفسها، حسب أقوال د. إلعاد بن درور بفي كتابه "الطريق إلى 29 نوفمبر" أن رئيس اللجنة كان يعمل بخلاف نقاشات اللجنة، فكان لديه تصور بأنه يجب إقامة وطن لليهود فقط، وتسليم باقي الأراضي للأردن، ولأجل ذلك سافر إلى الاردن سرا والتقى بالملك عبدالله الأول وعرض عليه الفكرة، ووافق الأخير عليها ومن أجل التأكد طلب لقاء كبار ضباط الجيش الأردني الذي بنته بريطانيا، واستفسر عن مقدرتهم السيطرة على الأراضي المتبقية بعد إقامة الدولة اليهودية، وأكدوا له مقدرتهم على ذلك، ناهيك أن نائبه باول موهان هو من قدم الخرائط إلى الأمم المتحدة بعد إقرار التقسيم، لأنه عرف مسبقا أنهم سيحتاجون إلى خرائط، فكان اقتراحه جاهزا، حيث شمل اقتراحه الأولي المقدم تخصيص 62% من الأرض لليهود و 37% للفلسطينيين .
يقول بن درور في كتابه الذي كتبه بعد مراجعة وثائق الأمم المتحدة أن هذه المستندات تشير بشكل واضح إلى أن نقاشات اللجنة احيانا كانت صعبة، حتى أن رئيس اللجنة اضطر لدعوة الشرطة لتهدئة المتناقشين، مع أن فقط ثلاث دول كانت مع الحفاظ على وحدة الأرض وتشكيل دولة علمانية ديمقراطية وهي إيران والهند ويوغوسلافيا، والبقية كانوا مع تقسيم البلاد.
لقد استطاع أعضاء اللجنة الجلوس مع بيغن مع أنه كان هاربا من الحكومة البريطانية، وذلك لأن اليهود قد سهلوا عملية لقائه لإسماعهم الرأي المتشدد بين اليهود، وعلى هذا تم بحث الأمر في البرلمان البريطاني حول كيفية استطاعة أعضاء اللجنة العثور على بيغن بينما القوات البريطانية لا تعرف مكانه. ويؤكد الكاتب أن ممثل هولندا لم يشارك في جولات اللجنة لأنه أصيب في كاحله قبل بدء عمل اللجنة، وممثل أستراليا ونائبه قضيا معظم وقتهم يسهرون ويسكرون مع أصدقائهم اليهود ولم يشاركوا في أغلب الجلسات، ولكن الأهم الدور الذي لعبه ممثل غواتيمالا خورخا غارسيا غراندوس وممثل اوروغواي انريكا رودريغس فبريغات، فقد كانا عيون الوكالة اليهودية في اللجنة ويوصلون المعلومات أول بأول للوكالة، وكانت معلوماتهم مهمة جدا، حيث استطاع اليهود عبر هذه المعلومات متابعة أعمال اللجنة وتحضير تقارير ورسائل توجه النقاش باتجاههم. (وهنا يحضرني ما كتبه بيني موريس في كتابه "1948 - تاريخ الحرب العربية الاسرائيلية الأولى" أن الحركة الصهيونية رصدت مليون دولار للرشاوى تمهيدا لنقاشات الأمم المتحدة، بينما جامعة الدول العربية رصدت فقط مليون دولار لجيش الإنقاذ والتي لم يصل منها شي).
بعد ان اتخذ القرار في اللجنة بتقسيم فلسطين، لم ينته الأمر، فهناك حاجة لإقراره داخل الأمم المتحدة، ويجب الحصول على ثلثي الأعضاء، ولم يكن هذا سهلا ولم يتخيل العرب/الفلسطينيون أنه يمكن الحصول على ثلثي الأعضاء، وهنا دخلت الولايات المتحدة على الصورة بشكل علني وضغطت على كل من هاييتي وليبيريا والفلبين وهددتهم بقطع المساعدات عنهم، مما اضطرهم للتصويت مع القرار، وسيكشف التاريخ لماذا امتنعت يوغوسلافيا مثلا مع أنها كانت معارضة في نقاشات اللجنة، وقد قال وزير الدفاع الأمريكي آنذاك جيمس فورستال في مذكراته عن الموضوع: "إن الطرق المستخدمة للضغط ولإكراه الأمم الأخرى في نطاق الأمم المتحدة كانت فضيحة".
ما حصل بعد ذلك يقول كل شيء في المعطيات، فمنذ ذلك القرار رصدت الحركة الصهيونية 60 مليون دولار لشراء الأسلحة، وأعدت جيشا قوامه 70 ألفا مدججا بالطائرات والمدافع، ناهيك عن الخبرة، فالكثير منهم كانوا جنودا سابقين، بينما قوام جيش الإنقاذ 7700 جندي غالبيتهم من المتطوعين واسلحتهم البنادق القديمة.
الخلاصة أن تآمر الرجعية العربية والامبريالية مع الحركة الصهيونية كان أكبر بكثير من قدرات الشعب الفلسطيني الدبلوماسية والعسكرية والمادية، وللأسف كان أمر النكبة محتوما. |